القاهرة- مازال السوق المصري يتكبد تبعات قرار تحرير سعر العملة المحلية (الجنيه) الذي صدر أواخر العام الماضي، لكن يبدو أن مزيد من المعاناة في انتظار المصريين، فثمة توقعات بتخفيض جديد للجنيه خلال الأيام القادمة في ضوء مؤشرات سلبية تحيط باقتصاد البلاد ككل.
وتوقعت بنوك عالمية مثل “كريدي سويس” (Credit Suisse) و”سوسيتيه جنرال” (Societe Generale) خسارة نحو 10% من قيمة الجنيه المصري قبل نهاية الربع الأول من العام أي نهاية مارس/آذار الجاري.
وذكر بنك “سوسيتيه جنرال” -في مذكرة بحثية صدرت نهاية فبراير/شباط الماضي- أن سعر 34 جنيها مقابل الدولار الواحد ربما يكون واقعا بحلول نهاية الشهر الجاري.
ووصل السعر الرسمي للدولار، أمس الأول الأربعاء، إلى نحو 30.89 جنيها، ويتذبذب السعر هبوطا وصعودا قروشا قليلة يوميا، وحسب وكالة بلومبيرغ بلغ سعر الدولار بالسوق الموازي نحو 33.50 جنيها.
ومؤخرا رجح بنك “كريدي سويس” أن يصل سعر الدولار في مصر إلى 35 جنيها، في حين لم يحدد “بنك أوف أميركا” (Bank of America) مستوى معين لهبوط الجنيه، لكن في الوقت نفسه توقع له هبوطا كبيرا خلال الفترة المقبلة.
وشهدت العقود الآجلة غير القابلة للتسليم قبل 12 شهرا، الثلاثاء، ارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية ليصل إلى 38 جنيها.
تلك التوقعات السلبية للجنيه يظللها واقع اقتصادي متأزم حيث وصل مستوى التضخم العام نحو 26.5% والتضخم الأساسي 31.2%، في يناير/كانون الثاني الماضي، وسجل الدين الخارجي قرابة 155 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2022-2023.
كما خفضت وكالة “موديز” (Moody’s) للتصنيف الائتماني، الشهر الماضي، تصنيف مصر من “بي 2” (B2) إلى “بي 3” (B3) بسبب تراجع احتياطيات النقد الأجنبي للبلاد.
لماذا ينخفض الجنيه؟
أرجع بنك “سوسيتيه جنرال” توقعاته لانخفاض الجنيه إلى أن مصر تحتاج عملة أرخص من المستوى الحالي، في ظل ارتفاع العجز بالحساب الجاري وميزان المدفوعات مع نقص الدولار في السوق.
بينما بنى “كريدي سويس” ترجيحاته تجاه الجنيه المصري لعدة أسباب منها عدم وضوح برنامج طروحات الشركات الحكومية بالبورصة.
وأعلنت الحكومة المصرية، في فبراير/شباط الماضي، عن برنامج لطرح 32 شركة حكومية في البورصة.
وتستعد مصر، خلال مارس/آذار الجاري، لمراجعة أدائها الاقتصادي من جانب صندوق النقد الدولي لتقييم السياسات النقدية المحلية، كخطوة تسبق صرف الشريحة الثانية من القرض الذي اتفق الصندوق على منحه للقاهرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويعد تحرير سعر صرف الجنيه إحدى أولويات برنامج الإصلاح المالي الذي يفرضه صندوق النقد على مصر كشرط لمنح شرائح القرض الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار، فضلا عن 6 مليارات من صندوق الاستدامة والشركاء الدوليين.
وخلال مؤتمر صحفي عقد الأربعاء، قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إن الحكومة اتخذت قرار المرونة في سعر الصرف، وتدرك الخطوات التي تتحرك بها بالتنسيق مع البنك المركزي، موضحا الالتزام في سداد الالتزامات الدولية من أقساط أو فوائد الديون الخارجية.
وبين أن الحكومة وضعت تصورا لتوفير الموارد الدولارية على مدى عام كامل، مضيفا أن تعويم الجنيه أفاد الصناعة لأنه زاد من تنافسية المنتج المصري.
رحلة التعويم
بدأت رحلة انخفاض الجنيه أمام العملات الأجنبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بالتزامن مع موافقة صندوق النقد الدولي على منح مصر قرض بقيمة 12 مليار دولار، وفق شروط معينة من بينها تحرير سعر صرف العملة المحلية.
وبين يوم وليلة كان على المصريين التعامل مع واقع فقدان عملتهم أكثر من ضعف قيمتها، حيث قفز سعر الدولار من 8 جنيهات إلى 19 جنيها، ليستقر بعد نحو عام عند سعر 15 جنيها مع زيادة متأرجحة لا تتعدى القروش القليلة.
وفي أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، اضطر البنك المركزي المصري، في مارس/آذار الماضي، خفض قيمة الجنيه 15% ليصل سعر الدولار 18 جنيها.
ومرة ثالثة، اعتمد “المركزي” سعر صرف مرن للجنيه ليصبح سعره أمام الدولار 22 جنيها، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وذلك بالتزامن مع إعلان صندوق النقد الدولي موافقته على منح القاهرة قرضا جديدا.
وبعد أسابيع قليلة من ذلك التعويم، بات السعر الرسمي للدولار يقترب من 25 جنيها، بينما في السوق الموازي كان السعر يزيد على 35 جنيها، ثم بعد أيام قليلة من بداية العام الجديد قفز الدولار ليعادل 30 جنيها.
نزيف العملة
توقع الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب انخفاضا جديدا للجنيه خلال الشهر الجاري، بل وربما يحدث تخفيض آخر خلال الشهرين المقبلين أيضا.
وأعرب -في تصريحات للجزيرة نت- عن أمله في أن تكون لدى إدارة السياسات النقدية المصرية القدرة على إبقاء سعر صرف الجنيه عند مستوى أقل من 35 جنيها لكل دولار.
وتابع عبد المطلب “ما أتمناه ألا يصل سعر الدولار إلى نقطة 35 جنيها لأنه إذا وصلها فسوف يقفز مباشرة لنقطة 37 جنيها بنهاية يونيو/حزيران القادم، وقد يتعداها”.
وتطرق إلى أسباب التي تدفع نحو مزيد من خفض قيمة الجنيه ومنها احتياج مصر إلى ما يقرب من 8.3 مليارات دولار لتسديد أقساط وفوائد الديون الخارجية حتى نهاية يونيو/حزيران المقبل، وعدم قدرة مصادر الدخل بالعملات الأجنبية على توفير الاحتياجات المطلوبة، فضلا عن زيادة الطلب على الواردات.
وبلغت قيمة الواردات المصرية نحو 86.6 مليار دولار خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي 2022، مقابل 80.7 مليارا خلال نفس الفترة من عام 2021 بزيادة قدرها 5.9 مليارات، وبنسبة ارتفاع قدرها 7.3%.
وعن مدى تأثر السوق المصري بمزيد من تعويم العملة المحلية، قال الخبير الاقتصادي إن خفض الجنيه يساهم في زيادة تكاليف الواردات، وبالتالي ترتفع أسعارها، وهو ما يقلل بالتبعية الطلب على الواردات، ومن ثم تقليل الطلب على العملات الصعبة.
واستطرد “كما أن تخفيض قيمة الجنيه قد يزيد من تنافسية الصادرات المصرية في الأسواق العالمية، وبالتالي ترتفع الصادرات ويزيد تدفق العملات الصعبة”.
ولكن، ثمة شق يخص الناس العاديين -كما أشار إليه عبد المطلب- فمعاناة المصريين ستزيد نتيجة لارتفاع أسعار السلع التي يتم استيراد أغلبها من الخارج.
انتعاش السوق الموازي
بدوره قال أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأميركية، مصطفى شاهين، إن المؤشرات الاقتصادية تدفع ناحية انهيار الجنيه، متوقعا المزيد من الانتعاش للسوق الموازي خلال الفترة المقبلة بسبب شح الدولار.
وأضاف شاهين -في حديث للجزيرة نت- أنه من الصعب التنبؤ بمستوى انخفاض الجنيه أمام الدولار قائلا “ربما يرتفع إلى 40 أو 50 جنيها وربما ينخفض إلى 25 جنيها” مشددا على أن الأمور كلها تتوقف على قرارات المسؤولين الحكوميين.
وأوضح ضرورة الإنفاق الحكومي على الأولويات فقط كخطوة جدية لكبح جماح انخفاض الجنيه، غير أنه لا يبني آمالا على الحكومة الحالية في السير على الطريق الصحيح، منتقدا الاستمرار في تنفيذ مشروعات “يروج لها على أنها قومية وهي لا طائل منها مع الاستمرار في بيع الأصول سواء هيئات أو شركات اقتصادية تمثل أهمية قصوى للأمن القومي”.
ويرى صندوق النقد الدولي أن الحكومة المصرية تستهدف تحقيق عائدات متوقعة بنحو 2.5 مليار دولار من برنامج بيع الأصول الحكومية بنهاية يونيو/حزيران المقبل، على أن تتجه لبيع أصول بنحو 6.7 مليارات حتى منتصف عام 2028.
ما الحل؟
يتجاوز الصحفي المختص بالشأن الاقتصادي، مصطفى عبد السلام، التوقعات الخاصة بسعر صرف الجنيه، ليحاول البحث عن حلول ناجزة قبل انهيار العملة المصرية.
وفي مقال له بعنوان “حقيقة التعويم الرابع للجنيه” دعا عبد السلام الجهات المسؤولة لاتخاذ خطوات بشكل عاجل وصارم لوقف ما وصفه بتهاوي الجنيه ووضع نهاية لتدحرج العملة المحلية نحو الأسوأ.
ومن أبرز تلك الخطوات الحد من الاقتراض الخارجي، وزيادة موارد الدولة الدولارية والاستخدام الكفء لها، وتنشيط قطاعات إستراتيجية مثل السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين والاستثمار المباشر، مع علاج مشكلة عجز الميزان التجاري المزمنة، والتوقف عن تخصيص الموارد والقروض الدولارية لتمويل مشروعات لا تدر عائدا بالنقد الأجنبي ويمكن تمويلها بالعملة المحلية.
وأردف “ليس من المقبول مواصلة تأسيس أكبر دار للأوبرا وأضخم مدينة للملاهي في منطقة الشرق الأوسط وتشييد مقار حكومية بالعاصمة الإدارية الجديدة بقروض خارجية”.
وشدد الصحفي المختص بشؤون الاقتصاد على ضرورة إعادة الثقة لدى حائزي الدولار وطمأنتهم على أموالهم المودعة لدى البنوك، خاصة هؤلاء الذين سحبوا مدخراتهم الدولارية من البنوك في ظل انتشار شائعات حول قرب إفلاس الدولة.