قالت مجلة لوبس (L’Obs) الفرنسية إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -الذي اعتقد أنه سينتصر بالحرب في غضون أيام قليلة- يرفض قبول فشل غزوه لأوكرانيا، متسائلة هل أصبحت حساباته الإستراتيجية، في مواجهة حرب تطول وتضعفه، الآن مبنية على التصعيد وحده لدرجة تجاوز المحرمات حتى استخدام السلاح النووي؟
وتساءلت المجلة -في مقال بقلم بيير هاسكي- متى أصبح بوتين منفصلا عن واقع جيشه ومجتمعه والعالم، لدرجة أنه اعتقد أنه يستطيع تغيير النظام الدولي بمفرده؟ وذلك بإطلاقه 83 صاروخا على 11 مدينة في أوكرانيا، مما زرع هناك الخوف ورائحة الموت، في رد هائل وأعمى على الانفجار المهين على جسر كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا.
وتابعت المجلة تساؤلاتها: كيف يمكن أن يكذب بوتين على نفسه بشأن نقاط الضعف الصارخة وفساد جيشه، ويقلل من تصميم الأوكرانيين على الوجود كأمة، ومن قدرة وإرادة الغربيين على الرد على الضربة التي وجهها؟ وإلى أي مدى لا يزال بوتين مستعدا للاستمرار لتجنب الهزيمة في أوكرانيا؟ وكم عدد القتلى والدمار الذي يريده؟ وهل سيكون أول من كسر المحرمات النووية منذ هيروشيما وناغازاكي عام 1945؟
آلة حاسبة
لا ينفي أحد استمرار الرئيس الروسي في استخدام القوة منذ وصوله السلطة عام 1999، فذلك ما فعله في الشيشان ومولدوفا وجورجيا وسوريا وأوكرانيا، ليبدو كآلة حاسبة تزدري بالأرواح وبالدمار، قادرة على إلحاق أكبر قدر من المعاناة بالسكان المدنيين لتتحقق أهداف بوتين دون أن يتعرض للخطر أبدا.
وتعد سوريا -بحسب المجلة- مثالا فظيعا على ما سبق، حيث “أنقذ” بوتين جلد الرئيس السوري بشار الأسد من دون إرسال قوات نظامية على الأرض، مستغلا الكسوف الأميركي تحت إدارة الرئيس باراك أوباما واحتكار روسيا للجو، فلم يعرض نفسه للخطر قط، وحساباته السياسية آتت أكلها، فكانت سوريا نقطة انطلاق “لعودة” القوة الروسية إلى ما وراء الجوار الروسي.
ويشارك بوتين “صديقه” الرئيس الصيني شي جين بينغ قناعته بأن الغرب في حالة انحدار، وأنه منهك بسبب الحروب الأميركية الطويلة في العقدين الماضيين، وبسبب إضعاف نموذجه الديمقراطي وإفلاسه الأخلاقي المتجسد في حركة الشواذ، وقد ابتكر شي شعار “الغرب يسقط، الشرق ينهض”.
ولا شك -وفقا لهاكسي- أن من ينظر إلى صور غزو مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021، أو صور فوضى الانسحاب الأميركي من كابول في 15 أغسطس/آب من نفس العام، يتصور أن الغرب في حالة انحدار، مما يفتح فرصا تسمح بتحقيق حلم بوتين الذي لم ييأس قط من إحياء مجال نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق كقوة إمبريالية ليست لها حدود نهائية مطلقا.
واعتبرت المجلة أن بوتين ارتكب أكبر خطأ إستراتيجيا، وأنه بعد 7 أشهر أصبح مقرا بالفشل في خطته القتالية الثالثة، حيث فشل في كييف في بداية ما كان سيصبح حملة قصيرة، وما زال يفقد أجزاءً من الأراضي التي احتلها في الشرق والجنوب منذ بداية الغزو، مشيرة إلى أن أوكرانيا كلفته الكثير من الرجال والمعدات لدرجة أنه اضطر إلى اللجوء إلى تعبئة جزئية، مما كشف عن الاضطراب الكبير في الرأي الروسي الذي عبر عنه هروب حوالي 700 ألف شاب في سن التجنيد، والانشقاقات داخل النخبة الروسية الداعمة “للعملية العسكرية الخاصة”.
فقدان الهيبة
لم تنته الحرب، وكل شيء يشير إلى أنها ستطول، خاصة أن تراكم الإخفاقات المهينة يترك الرئيس الروسي في مواجهة خيارات محدودة ومحفوفة بالمخاطر على نحو متزايد، لأنه قطع بعدم التخلي عن الأراضي التي احتلها وفقد بعضها، ولأن الأوكرانيين لن يقبلوا في أي تفاوض بالتنازل عن جزء من أراضيهم، وربما أيضا بسبب فقدانه الهيبة أمام حلفائه في الصين والهند ودول الاتحاد السوفياتي السابق.
ومن خلال رفضه قبول فشل مغامرته الأوكرانية، يجلب بوتين أوروبا والعالم إلى عصر لا يمكن التنبؤ به، وتستند حساباته الإستراتيجية إلى التصعيد وحده، وقد بدأه في أوكرانيا باستهداف المدنيين، وقد يثني بالدول الغربية، خاصة الأوروبيين الذين يدعمون بشكل حاسم المجهود الحربي الأوكراني، وذلك في المعركة من أجل الطاقة ومناورات زعزعة الاستقرار بجميع أشكالها، وحتى عمليات تخريب البنى التحتية الحيوية وخطوط الأنابيب والكابلات البحرية والشبكات الكهربائية أو ربما حتى طرق المواصلات.
لكن من الواضح أن سلاح بوتين الأعلى هو القوة النووية وتأثيرها المذهل، إذ استخدم التلويح بها وسيلة للابتزاز منذ بداية حربه، لما تحتله الطاقة النووية من مكانة خاصة في خيالنا الحربي، حتى إن العالم استعاد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 عندما كانت القوتان العظميان في ذلك الوقت -الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- أقرب إلى المواجهة النووية.
ومع ذلك، فإن التهديد النووي الذي أثاره بوتين -بحسب المجلة- لم يردع الجيش الأوكراني عن مواصلة هجومه للاستفادة من ميزته قبل بداية الشتاء، ويواصل الغربيون تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا لأن الاستسلام اليوم يعني وضع المرء نفسه بشكل دائم تحت رحمة ابتزاز بوتين، كما يمكن أن يكون بمثابة سابقة لأنظمة مفترسة أخرى في أماكن أخرى مثل كوريا الشمالية، يمكنها أن تأخذ بوتين مثالا يحتذى.
لذلك، فإن بوتين وحده هو من سيقرر المرحلة التالية من الحرب، وبذلك يحدد سلطته ومكانه في التاريخ الروسي، لأنه من يتحمل مسؤولية تاريخية بارتكابه الخطأ الأكبر في روسيا والعالم ببدء هذه الحرب الكارثية، وربما يرتكب ما لا يمكن إصلاحه باندفاعه المتهور لتجنب هزيمة إستراتيجية.
وختمت المجلة بتعليق لأحد الزعماء الأوروبيين لم تذكر اسمه، يقول “لا يمكن للدكتاتور أن يخسر الحرب. يمكنه فقط أن يفقد قوته، بعد أن فعل كل شيء للاحتفاظ بها”.